التعليم الابتدائي مفتاح التفوق الياباني
صفحة 1 من اصل 1
التعليم الابتدائي مفتاح التفوق الياباني
ما سر تفوق المدارس اليابانية الابتدائية عن مثيلاتها لدينا؟إنها كلمة واحدة وهي «القيادة»، فالأطفال يديرون شؤون فصولهم إلى حد تنظيف الحمامات الخاصة بالمدرسة. لقد آلوا على أنفسهم أن يستفيدوا من كل شيء يتعلمونه ويجعلون منه نبراساً لهم في حياتهم وسلوكهم.
دق جرس انتهاء الفسحة المدرسية، فانطلق الطلبة بمدرسة تاكيهار الابتدائية مسرعين من فناء المدرسة نحو فصولهم؛ ليعودوا في لحظات قصيرة مدججين بالمكانس والمسَّاحات وقطع القماش اللازمة للتنظيف. وبدأ العمل على الفور في أروقة المدرسة التي ضجت بصياح الأولاد والبنات أثناء قيامهم بإخلاء المكان من مخلفات العلب الفارغة.
أما دورات المياه فنظف الأولاد جدرانها البيضاء وتسابق بعضهم فيما بينهم في مسحها بقطع القماش المبللة، وإعادة ترتيب المكان بوجه عام بعد جمع المهملات.
وحيث إن المدارس اليابانية لا يعمل بها أي بواب أو حاجب، لذا فقد أصبح على الطلبة القيام بمهام تنظيف النوافذ والأرضيات بأنفسهم. ومن ثم يُعِدُّ الطلبة - بما فيهم أطفال الصفوف الأولى - أدوات المسح والتنظيف ليقوموا بهذه المهمة كل يوم لمدة عشرين دقيقة.
بعد ذلك يدق جرس المدرسة مرة أخرى ليعلن أنه قد حان الوقت لما يسمى «بجلسة الاعتراف»، فيقوم فتى طويل نحيل من طلبة الصف السادس، ممن يتولون قيادة إحدى جماعات التنظيف، بجمع أعضاء فريقه لإجراء مناقشة بخصوص عمل فترة الظهيرة، وقد دار بينهم الحوار التالي:
+ سأل قائد الجماعة فريقه قائلاً: «هل قمنا بعملنا على ما يرام اليوم؟ط أجاب الآخرون «نعم».
- فرد القائد «وهل أحسنا استخدام وقتنا تماماً؟».
- أجاب الآخرون «نعم».
- واختتم تساؤله قائلاً «وهل أعدنا كل الأدوات إلى أماكنها؟»
- فجاءه الرد بالإيجاب.
لكن هذا الجو المفعم بتهنئة الذات قطعه صوت ضمير إحدى الفتيات الخجولات وتدعى سيرا، وتبلغ من العمر أحد عشر عاماً، حيث قالت« الواقع أننا لم نضع المكانس في مكانها بشكل أنيق». وقد أومأ باقي الأطفال برؤوسهم مقرين بذنبهم، واكتست وجوههم للحظات مسحة من الكآبة بسبب هذا التقصير.
مما سبق يتضح لنا الجانب الذي نفتقده غالباً، ويتميز به التعليم الابتدائي في شرق آسيا. وتشتهر المدارس الابتدائية في اليابان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية بأنها الأفضل عالمياً بسبب أدائها العلمي المتميز. ومع ذلك فالشيء المهم، وخصوصاً في اليابان، لا يتمثل في تخريج أطفال بارعين أذكياء بقدر ما هو الاهتمام بتخريج أطفال جيدين ومسؤولين ومنظمين. فالبرنامج بأسره يهدف إلى تعليم الأطفال العمل معاً والتعاون على حل المشكلات، وهذا البرنامج يؤتي على وجه العموم بثماره. وبصفتي أحد المقيمين بمدينة طوكيو على مدى العامين ونصف العام الأخيرين، لم يكن المكان يروق لي ولا يجذبني كمحل لإقامتي ومعيشتي، يرجع هذا إلى ازدحامه الشديد وإثارته للإزعاج والضجر. بيد أنني مقتنع أن الشعب الياباني الآن بشكل عام هو ألطف الشعوب، وأكثرها تحملاً للمسؤولية في العالم. وقد وصفتهم بالألطف تحديداً دون سائر الأوصاف الأخرى من صداقة وسعادة ومرح، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى النظام التعليمي لديهم.
وها هي مزيو هنزاوا، إحدى الممرضات العاملات بمدرسة في مدينة يوكوهاما تطالع غرفة أحد المدرسين العتيقة وتقول «لو كان لدينا هنا حرّاس أو خدم لكانت هذه المدرسة تشع بريقاً، إلا أنه من المهم للغاية أن نزرع في أولادنا المسؤولية، ونعلمهم أن ينظفوا المكان الذي يستعملونه، فهذا هو أحد أهداف التعليم. وأعتقد أننا بهذه الطريقة نعلِّم أبناءنا كيفية الاعتناء بالأشياء».
إن عملية التأهيل الاجتماعي التي بدأت في المدارس شكلت بعمق المجتمع الياباني، وجعلت كل شخص جزءاً لا يتجزأ من المجتمع.
والحقيقة أن معظم الناس الذين يراقبون النظام التعليمي الياباني يتحمسون له للغاية، إلا اليابانيين، وهذا أمر غريب يحتاج إلى إيضاح. ففي الوقت الذي يبدو فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية تتجه نحو نظام تعليمي أكثر تنظيماً، وأكثر عودة للأسس التعليمية، ويتسم بالالتزام بزي مدرسي، بعد أن صادق الرئيس كلينتون على هذا الأمر، نجد أن اليابان تتجه نحو البعد عن هذا النموذج. ويشكو اليابانيون من أن نظامهم التعليمي المدرسي نسقي وصارم بشكل يضر للغاية بعملية الإبداع. وتعج الصحف اليابانية بقصص الاستئساد على الطلبة الضعفاء، والتلاميذ الذين يرفضون الذهاب للمدرسة، بل واستبعد أحد النقاد اليابانيين نتائج الاختبار الممتازة التي يحققها الطلبة اليابانيون، واعتبرها نتاج عمليات تعليم لا حصر لها ينفذها الطلبة على غرار ما تفعل حيوانات الفقمة (عجل البحر) المدربة.
والواقع أنه أصبح واضحاً تماماً أن نظام التعليم في اليابان قد بدأ يتداعى في مدارس الأحداث العالية (مدارس تشتمل على الصفين السابع والثامن من المرحلة الابتدائية، وعلى السنة الأولى من المرحلة الثانوية) مروراً بعد ذلك بسنوات الجامعة. فالمدارس الثانوية تشبه غالباً أواني الطبخ التي تعمل بالضغط، حيث يعتاد الطلبة حفظ أكبر قدر من الحقائق والمعلومات دون أن يتعلموا في الواقع كيفية التفكير. (على الجانب الآخر تقوم أمي بتدريس مادة تاريخ الفن في إحدى الجامعات الأمريكية، وتقول إنها قد التقت بكثير من الطلبة الذين لا يعرفون الحقائق الأساسية ولا حتى كيف يفكرون!).
على أية حال، فإن الانتقادات الموجهة لنظام التعليم في اليابان جانبها الصواب فيما يتعلق بالمدارس الابتدائية. فتلك المدارس لا تستخدم الزي المدرسي أو القواعد الصارمة، بل إنها تغرس الحماس والإبداع اللذين تدمرهما فيما بعد مدارس الأحداث العالية بكل ما في وسعها. إن مأساة النظام التعليمي في اليابان أن يخرّج طلبة من الصف الخامس يتسمون بالابتهاج، والقدرة على التحدث بطلاقة، لكنهم يصبحون في مدارس الأحداث العالية طلبة متشائمين تماماً.
أين الخطأ إذن؟ إن كثيراً من اللوم يلقى على نظام الالتحاق بالكليات، حيث يعتمد مستقبل الشاب بأسره على أدائه في اختبارات القبول.
وتحدد هذه الاختبارات مصير الطالب في نهاية دراسته، فإما أن يصبح مديراً لشركة ما، وإما أن يصبح مشغل مخرطة، ولا توجد أمامه عادة فرصة أخرى. ومن ثم يدفع الآباء والمعلمون على السواء أبناءهم المراهقين إلى مدارس تعتمد على حشو الدماغ بالمعلومات وعلى الحفظ الذي لا نهاية له؛ لكي يبلوا بلاء حسناً في الاختبارات، وذلك دونما التركيز على ما هو مهم أو مفيد. فالمهم - بمنتهى البساطة - هو التركيز على ما يأتي في الاختبارات. ففي مادة اللغة الإنجليزية - على سبيل المثال - نجد أن الاختبارات تركز على القواعد بدلاً من التركيز على فنون الاتصال والمحادثة، وهو الأمر الذي يجعل خريجي المدارس العليا اليابانية بوسعهم حل أي سؤال في اختبار تحريري، في الوقت الذي يصعب عليهم اجتياز اللغة الإنجليزية محادثة رغم دراستهم اللغة الإنجليزية لمدة ست سنوات.
إن إلمامي وتعرفي على نظام التعليم الياباني جاء بشكل شخصي وصحفي أيضاً. فقد أمضى طفلي فترة الروضة بالمدرسة اليابانية، وأتم ابني الأكبر مرحلة التمهيدي، وكان عليّ أنا وزوجتي أن نقرر هل سنبقي عليهم في النظام التعليمي الياباني أم سنلحقهم بمدرسة دولية؟وقد قال لي ابني «جريجوري» بكل أسى «بابا، أود الالتحاق بمدرسة يابانية فستكون أكثر متعة». وقد قللت من أهمية الأمر وأسقطته من اعتباري قليلاً حيث إن جريجوري يعتقد - على ما يبدو - أن الإنجليزية لغة ميتة أو مهجورة مثل اللغة اللاتينية، لا يتحدثها إلا الآباء والأجداد والعجائز من كبار السن، وقد ارتبطت هذه اللغة في ذهنه غالباً بالأوامر المتعلقة بالذهاب للنوم وإنهاء الطعام الموجود في طبقه. أما اللغة اليابانية كما يراها ويدركها فهي اللغة التي يتحدثها الأطفال.
ولكي أتصور ما يتوجب عليّ فعله قمت بقدر من البحث فزرت المدارس، وتحدثت إلى أولياء الأمور، وفكرت ملياً فيما إذا كانت المدرسة الابتدائية اليابانية ستحول ابني إلى عبقرية فذه أم إلى مجرد إنسان أوتوماتيكي يعمل بطريقة روتينية أو آلية!
وقد صنَّفَتْ أحدث الاختبارات الدولية الطلبة اليابانيين في جميع الصفوف الدراسية ضمن أفضل الطلبة في العالم، وذلك جنباً إلى جنب مع طلبة سنغافورة وكوريا الجنوبية، وعلى النقيض نجد أن طلبة الولايات المتحدة في الصف الرابع فقط كانوا على ما يرام، وفيما عدا ذلك سجلوا تراجعاً في تصنيفهم.
إن وصف نموذج المدارس اليابانية بأنها أشبه بالمؤسسات الصناعية الصغيرة، التي تستخدم العمال بأجور منخفضة وأحوال غير صحية يكاد يكون دقيقاً للغاية بالنسبة للصفوف العليا، في الوقت الذي يعد وصفاً خاطئاً بالنسبة للمدارس الابتدائية. فالطلبة اليابانيون المبتدئون في عملية الإدلاء بأصواتهم في الاقتراعات يميلون على الأرجح إلى التعبير عن استمتاعهم بالمدرسة أكثر من نظرائهم من الطلبة الأمريكيين. وسأطلعكم هنا على فصل الصف الثاني الذي دخلته بمدرسة تاكيهار الابتدائية، الواقعة بمدينة أوميا الصغيرة على بعد 200 ميل جنوب غرب طوكيو، الواقع أنني أزور مدينة أوميا بانتظام على مدى عامين، ولذلك فإنني أعرف كثيراً من المعلمين وأولياء الأمور هناك، وعلى أية حال فإن ما عثرت عليه في المدرسة كان أمراً نموذجياً بكل المقاييس. فقد رأيت ولدين يتصارعان على الأرض، وولدين يمسكان بيد المعلم أثناء تحدثه إلى فتاة أخرى. أما باقي الطلبة فكانوا يهرولون ويصيحون في كل مكان ممزقين بوجه عام صورة المدارس اليابانية كمؤسسات منظمة بشكل صارم. وهذا الفصل - بكل تأكيد - لم يكن في حصة دراسية وإنما كان في وقت الفسحة، وما أكثرها طوال اليوم! ويمضي الطلبة اليابانيون في المدارس الابتدائية وقتاً أطول مما يمضيه نظراؤهم الأمريكيون، كما أنهم يستمتعون بفسح وعطلات أكثر من الأمريكيين، ومع ذلك فعندما استؤنف وقت الدراسة، توارى جو الفوضى المرحة قليلاً.
وقد يبدو أمراً متناقضاً أن يسمح بالفوضى في الفصول الدراسية خصوصاً إذا كانت أهداف التعليم في اليابان تتمثل في تعزيز وتشجيع النظام. إلا أن المعلمين يحاولون تعليم الطلبة الانضباط الذاتي في المقام الأول، ومن ثم نجدهم متسامحين بشكل متميز بشأن سوء السلوك بل والتحدي الصريح لهم. وفي مدرسة تاكيهار، جذبتني طفلة متحمسة من الصف الرابع من ذراعي بشكل لافت للنظر بينما كنت أحاول التحدث مع مدير المدرسة في الفناء، أما هدفها فكان يتمثل في رغبتها في أن أشاركها ما يسمى بلعبة الكرة الناعمة، لكن تصرفها غير المناسب هذا يستوجب رداً فورياً من مدير أي مدرسة في أمريكا، لكن مدير المدرسة الياباني لم يفعل أي شيء، بل سرعان ما انقضت الطفلة عليه وجذبته من ذراعيه بقوة جعلته يتراجع إلى الخلف، فما كان منه إلا أن طلب منها التوقف عن ذلك، لكنها استمرت في سلوكها فاضطر إلى الصبر عليها!
إن المدارس الابتدائية اليابانية تغرس في الطالب إحساساً متعاظماً بالمجتمع، ويتم ذلك عادة من خلال الإبقاء على أفراد الفصل الواحد معاً لمدة عامين، وكذلك المعلم المستمر معهم للفترة نفسها أيضاً، ويتحقق لهم هذا الأمر من خلال إشعار الطلبة بالمسؤولية، علاوة على ذلك نجد أن المعلمين في الفصول الدراسية اليابانية لا ينظر إليهم على أنهم الرؤساء، على الأقل بمفهوم الكلمة في الولايات المتحدة. فالطلبة اليابانيون حينما يرتكبون خطأً ما لا يقوم المعلمون بتصحيح الخطأ، إنما يوكلون هذا الأمر إلى طلبة آخرين، ولا يعاقب المعلمون الطلبة الذين يسيئون التصرف، بل يفضلون أن يجعلوا باقي الطلبة يوبخون المخطئ بما يجعله يشعر بالذنب!
ومثل هذه المعالجة البارعة هي أساس ومفتاح التعليم الابتدائي وقبل الابتدائي في اليابان، والمعلمون في هذه المعالجة يتميزون بالبراعة الفائقة.
وهكذا نجد أنه منذ بداية السنوات الأولى في الدراسة يتولى الأطفال تحمل المسؤوليات المختلفة، فيقوم الطلبة بإحضار وجبة الغداء من مطبخ المدرسة إلى الفصل ويتولون تقديمها لكل فرد، ثم يقومون بتنظيف المكان تماماً بعد ذلك. ويتبادل الأطفال فيما بينهم وبشكل دوري وظيفة مراقب الفصل المنوط به تحقيق النظام في الفصل وجمع الطلبة، ومناقشة أي شؤون مدرسية تخصهم. والمراد من هذه الفكرة هو تعليم الأطفال القيادة وربما - وهذا هو الأهم - تعليمهم المتابعة، لأن هذا الأمر سيخلق حتماً نوعاً من المشاركة العاطفية مع من يتولى مسؤولية تهدئة فصل هائج.
وفي الصف السادس بمدرسة آسو الابتدائية بمدينة أوميا على سبيل المثال، تشاجر فتى وفتاة على من يتولى مهمة السيطرة على الفصل.
وكان ايساتو تكيوشي - معلم الفصل - جالساً على كرسيه في مؤخرة الفصل يراقب الطالبين وهما يناديان الأسماء ويصفان الطلبة، ويجريان نظرة خاطفة على قائمة الأسئلة اليومية: «هل أحد متأخر عن المدرسة اليوم؟ هل أحد مصاب بالإنفلونزا؟ هل أحضر أحدكم علبة مناديل؟» وعندما انتهت جميع الإجراءات التمهيدية تقدم تكيوشي، وبتوجيه من مراقبي الفصل، تبادل المعلم والطلبة انحناءة التحية وقال تكيوشي لطلبته «صباح الخير».
إن تأكيد تعليم المسؤولية للتلاميذ يصدم أحياناً الأمريكيين ويذهلهم. ففي مدارس الحضانة (الروضة) والتمهيدي اليابانية نجد غالباً بعض الأدوات الحادة كالمقصات والسكاكين المسننة موضوعة في كل مكان في المدرسة. ويتم تكليف الطلبة بجملة مهام للقيام بها مثل تحديد الأشياء التي يتم لصقها في كل أنحاء المدرسة. ويقول تاموتسو واكيموتو - مدير مدرسة آسو الابتدائية -: «نحن نترك الأبناء ليقرروا بأنفسهم أهدافهم، وإن كان هذا لا يمنع المعلمين من المساعدة بتقديم الاقتراحات لهم. ويُعقد اجتماع مدرسي كل أسبوعين نناقش فيه الأهداف المرجوة ونتخير أحدها، ثم نعقد جلسة اعتراف للتحدث عن الأشياء التي لم يتم إنجازها على ما يرام.
فعلى سبيل المثال، لوحظ أن صنابير المياه تنقط كثيراً من الماء في الفترة الأخيرة، وعليه قرر الأولاد أن يجعلوا هدفهم هو إغلاق الصنابير بإحكام حينما يستخدمونها».
ويتولى الطلبة في كل فصل وظائف ومهام أخرى أقل. فالطلبة في مجموعة اللعب - على سبيل المثال - يقررون الألعاب التي تُجرى، ومن سيكون في كل فريق، أما مجموعة الدراسة فتتولى قيادة الفصل حينما يتغيب المعلم، ذلك لأنه لا يوجد معلمون بدلاء في المدارس اليابانية، ومن ثم يتولى الطلبة مهمة الاهتمام بأنفسهم.
ويقول واكيموتو - مدير مدرسة آسو الابتدائية - «إذا كان المعلم غير موجود يقوم الطلبة بعمل النشرات والواجبات المنزلية. وبالنسبة لطلبة الصف الأول والثاني يتعين علينا أن ننصب عليهم معلماً، وذلك لقلقنا عليهم كطلبة صغار، أما الأولاد الكبار فيدرسون واجباتهم بهدوء».
وأضاف واكيموتو قائلاً «أما إذا تغيب المعلم لمدة شهر أو أكثر لسبب ما، فإننا نوفر بديلاً له بالطبع».
ولا يقتصر تحميل الطلبة المسؤولية على مجالات الأنشطة غير المنهجية وإنما يمتد إلى الدروس أيضاً.
فحينما يطرح المعلم سؤالاً على الطلبة، يرفعون أيديهم للإجابة، فيتخير المعلم أحد الطلبة فإذا ما أجاب إجابة خاطئة، يتولى طالب آخر على الفور إخباره بذلك، بعد ذلك يدعو المعلم الطلبة لمناقشة القضية أو السؤال المطروح. وحينما يغض الطلبة الطرف عن خطأ ما، أو يبدو أنهم يسيرون في المسار الخطأ، يقوم المعلم بإعادة توجيههم من خلال طرح مزيد من الأسئلة.
في اليوم التالي، كتب الأستاذ شنجي نيشي مسألة رياضية على سبورة المدرسة لطلبة الصف الخامس بمدرسة آسو الابتدائية. تقول المسألة «قطاع من شجرة طوله متر، ويزن 1.2كيلو غرام. فما وزن 3.3 متر من الشجرة نفسها؟ أجب عن السؤال، وقرب الكسر العشري إلى رقم صحيح موضحاً كيفية التوصل إلى الناتج؟».بعد ذلك بدأ الأستاذ نيشي يتجول في غرفة الفصل في الوقت الذي انقسم أعضاء الفصل إلى مجموعات صغيرة، كل مجموعة تضم نحو أربعة طلاب يحاولون التوصل إلى الحل، ثم قامت كل مجموعة بكتابة الحل على السبورة. وهذه المجموعات الصغيرة تعد وحدة التعليم الأساسية في كل فصل تقريباً في اليابان. وتسير معظم مجموعات فصل الأستاذ نيشي على ما يرام، لكن إحداها بداخلها نوع من الصراع، وتضم فتاة صغيرة تدعى تشنامي تشان، وتعد هذه الفتاة الألمع والأبرز في مجموعتها، وقد حلت المسألة بسرعة وحاولت عرضها على الآخرين قائلة «لقد توصلت إلى الحل دعونا نتقدم على الفور للإجابة». فما كان من أحد الطلبة المجتمعين على طاولة المجموعة إلا أن عبر عن امتعاضه وانزعاجه من طبيعتها المسيطرة، وقال لها إنني أفكر في حلها بطريقة أخرى فتمهلي.والحقيقة أنه كان في الخطوة الأخيرة لحل مماثل لما طرحته زميلته تشنامي تشان، لكنه قام بمحو خطوات الحل التي توصل إليها وآثر محاولة تصور طريقة أخرى لحل المسألة، وذلك حفظاً لماء وجهه إثر بطئه في الإجابة. وقد اجتهد الفتى في كتابة معادلات مختلفة قدر المستطاع عن معادلات تشنامي تشان، وقد توصل أثناء هذه العملية إلى فهم وإدراك ممتاز للمسألة المطروحة.وسجلت كل مجموعة الحل الذي توصلت إليه على السبورة وكان 3.96 كيلو غرام، لكن بعض المجموعات وجدت بعد ذلك صعوبة في تحويل الكسر العشري إلى الحل النهائي الصحيح وهو 4 كيلو غرامات. علاوة على ذلك، فقد استخدمت كل مجموعة معادلات مختلفة للتوصل إلى الناتج. وقامت كل مجموعة بشرح ناتجها، وكان كل فرد من أعضاء المجموعة يشارك بجزء في هذا الشرح، ويعلن استعداده للإجابة عن أي سؤال للطلبة الذين تحمسوا بدورهم لإمطاره بوابل من الأسئلة.وقد تساءل أحد الطلبة «من أين استخلصت الرقم 4؟» وحينما انتقد طالب آخر طريقة حل إحدى المجموعات، دعاه الأستاذ نيشي إلى المثول أمام الجميع وتدوين المعادلات التي يعتقد أنها صحيحة. فتقدم الطالب بكل ثقة وبدأ يكتب باهتياج شديد وسرعان ما ارتبك وضل طريقه، فقال بعد أن تراجع إلى مقعده وفكر ملياً «إنها صعبة للغاية».
وتتميز المدارس اليابانية بميزة أخرى غريبة الأطوار وتتمثل في الحماس الزائد لكلٍّ من الطلبة والمعلمين على السواء بخصوص تعليم القيم. ويبدي المعلمون أحياناً بشاشة وعذوبة تجعل أشد الناس تفاؤلاً يتضاءل أمامهم. وتعج الفصول بالشعارات المبهجة مثل «سنبذل ما في وسعنا في كل شيء» أو «كن نشيطاً ومرحاً وودوداً ومعيناً للآخرين»، ويضع كل طالب نصب عينيه أهدافاً يتمنى تحقيقها خلال العام.
ويعكس التركيز على الشعارات والأهداف اختلافاً أساسياً بين منظور أمريكا وآسيا للتعليم.
وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن الآسيويين يرون أن التميز الأكاديمي أو العلمي يتأتى في المقام الأول من الاجتهاد، بينما يميل الأمريكيون إلى أن ينسبوا التفوق للذكاء الفطري. ونتيجة لذلك يحفز أولياء الأمور اليابانيون أطفالهم على الاجتهاد «والأطفال بدورهم يحفزون أنفسهم» لاعتقادهم بأن ذلك سيحقق فروقاً واختلافاً جوهرياً.
وترى إحدى هيئات البحث البارزة أن الأطفال في آسيا يبلون بلاء حسناً في المدارس، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى أن أولياء الأمور يحددون لأولادهم أهدافاً كبيرة يسعى أطفالهم بعد ذلك لاستيعابها وتحقيقها، بينما يتردد أولياء الأمور الأمريكيون في تحفيز ودفع أبنائهم كثيراً للاجتهاد.
ومن ثم فأولياء الأمور اليابانيون يحددون معايير مرتفعة، بينما يكتفي أولياء الأمور الأمريكيون بمعايير منخفضة: وفي كلتا الحالتين نجد أن الأولاد مضطرون إلى الوفاء بما يطلب منهم.
ومن بين الوسائل الجــوهرية لرفــع مستوى الأطفال في اليابان في البيت والمدرسة نجد ما يســــمى بـ «هانسي» وهي كلمة ذات معان مختلفة، إذ تعني «الخزي»، أو« الاعتذار» أو «الأسف العميق». فحينما يرتكب الأطفال خطأ ما، يفترض أن يعبروا عن أسفهم العميق، وفي بعض المدارس توجد جلسات اعتذار، أما فكرة الجلسات فتقوم على مبدأ مؤداه أن اعتراف الطلبة بأخطائهم وتقصيرهم هو السبيل الوحيد للتغلب على جوانب النقص والضعف. ولذلك ينتهي كل يوم دراسي في مدرسة تاكيهار الابتدائية باجتماع للفصل وجرعة هانسي أو اعتذار.
وفي فصل الصف الثالث، أعلنت الفتاتان المراقبتان - في ذلك اليوم - عن بدء اجتماع الانصراف من المدرسة، لكن الاجتماع حفل بضوضاء وصخب شديدين فما كان من المعلم إلا أن تراجع للوراء رافضاً إنقاذ المراقبتين من ورطتهما. فقالت إحدى الفتاتين مناشدة زملاءها «من فضلكم، نرجو التزام الهدوء» وبدأت الجلبة تنخفض قليلاً، فقالت المراقبة الأخرى «دعونا نتأكد من أننا حققنا أهدافنا اليوم. هل دخلنا فصولنا على وجه السرعة حينما دق الجرس؟».
وعلى الفور رفع الطلبة أيديهم علامة الإيجاب فعاودت المراقبة السؤال «وهل قمنا بعملية التنظيف بمنتهى الجدية؟»، فجاءت الإجابة مرة أخرى بالإيجاب. وواصلت المراقبة تصفح قائمة المراجعة بيد أن الشخص الوحيد الذي على ما يبدو أنه أخطأ في مرامه كان كازوا كون الذي نسى كتابه في البيت، ومن ثم وقف كازوا كون أمام زملائه وعبر عن أسفه واعتذاره للفصل قائلاً «سأحرص على ألا أترك أي شيء في البيت منذ الآن».
والواقع أن تلك الجدية - التي لا نجدها إلا في محافل الدروس الدينية - أشبه بالتمثيلية التحذيرية التي سرعان ما تزول مع نهاية اليوم الدراسي، بل إنها تتحول إلى نوع من السخرية في مدارس الأحداث العالية. لكن هذه الجدية تعاود الظهور مرة أخرى في مرحلة البلوغ وتسود إلى حد ما في المجتمع الياباني.
وهذا هو السبب في أن التهكم لا يحقق المرجو منه غالباً في اليابان، ولا يثير الضحك، بل يثير الحيرة فقط.
ونصل إلى وسيلة أخرى من الوسائل التي تتبعها المدارس اليابانية لزرع الإحساس بالجماعة والمجتمع، وكذلك لخلق مهارات علمية غير عادية، وتتمثل هذه الوسيلة ببساطة في الإبقاء على الطلبة في الفصول لفترة أطول. ولذلك يمضي طلبة المدارس الابتدائية في جميع أنحاء شرق آسيا عدد ساعات دراسية أطول من التي يمضيها الأمريكيون في مدارسهم، ويتمتعون أيضاً بعطلات مدرسية أقل، لدرجة أن الطالب الياباني أو الصيني العادي يفوق نظيره الأمريكي في فترات الدراسة بما يوازي سنة دراسية، وذلك مع نهاية الصف السادس الابتدائي.
فعطلة مدرسة تاكيهار الصيفية - على سبيل المثال - تستمر ستة أسابيع فقط، من منتصف شهر يوليو حتى نهاية شهر أغسطس، ويمنح الطلبة واجبا منزليا لإتمامه خلال هذه الفترة.
وهناك نقطة أخرى مهمة تتميز بها المدارس اليابانية وتتمثل في القيمة العقلية للتعليم الياباني، الذي يلقى احتراماً واسعاً في الدراسات الدولية. فبرنامج دراسة الرياضيات والعلوم الدولي الثالث، الذي يقوم بمقارنة إنجازات الطلبة في 45 دولة منذ عام 1990، ويعد أحد برامج البحث الشاملة للغاية، دعا خبراء الرياضيات لدراسة السجلات المدرسية (دفاتر علامات الطلاب) لمادة الرياضيات لطلبة الصف الرابع في دول عديدة، ثم تصنيف هذه المعدلات. وقد قال الخبراء إن 30% من دروس الرياضيات اليابانية ذات نوعية مرتفعة، و57% منها متوسطة المستوى، و13% ذات نوعية منخفضة، بينما لم يجد الخبراء في الرياضيات التي تُدرس في الولايات المتحدة أي مستوى مرتفع النوعية، ووجدوا أن 13% من الدروس ذات نوعية متوسطة و87% منها ذات نوعية منخفضة!
وبالطبع هناك بعض المدارس الابتدائية في الولايات المتحدة تتمتع بنفس مستوى المعلمين الممتازين، والالتزام بالتعليم الأخلاقي المتوافرين في المدارس اليابانية، لكن هذه المدارس غالباً ما تكون مؤسسات خاصة ومكلِّفة. وعلى النقيض من ذلك، نجد أن المدارس الابتدائية اليابانية تقدم فرصاً متساوية بشكل مميز لـ 99% من الأطفال المقيدين بالمدارس الابتدائية الحكومية، ولا توجد فروق تذكر بين المدارس الموجودة في المناطق الغنية وتلك الموجودة في المناطق الفقيرة كالذي يحدث في أمريكا.
أما أحد أسباب جودة التعليم في اليابان فتكمن في جذب مهنة التعليم لأفضل العناصر البشرية. ويظهر احترام المعلمين في اليابان في استطلاعات الرأي، حيث يحتل المعلمون مكانة تفوق منزلة المهندسين، أو المسؤولين في إدارة المدينة.
ويتلقى المعلمون أيضاً رواتب طيبة للغاية، وتفوق رواتبهم عموماً دخول الصيادلة والمهندسين، ومن ثم نجد أن هناك خمسة متقدمين لكل وظيفة تعليمية شاغرة في العام الواحد.
وعندما تعرفت على هذه الجوانب الخاصة بالتعليم الياباني، وقمت بزيارة الفصول الدراسية هناك، تأثرت بذلك للغاية. بيد أنني تحدثت مع زملائي في مسألة إلحاق ابني بمدرسة يابانية فتعرفت على رأيين، أحدهما لزملائي الأمريكيين الذين استحسنوا الفكرة واعتبروها فكرة عظيمة، والأخرى لزملائي اليابانيين الذين اعتقد معظمهم أنني مجنون. ولقد حدثتهم بأن العلماء الغربيين يعتبرون أن المدارس اليابانية الابتدائية قد تكون الأفضل في العالم بأسره، فما كان منهم إلا أن حملقوا فيّ كما لو كنت مجنوناً!
أما أعظم ما بهرني في المدارس اليابانية فلم يكن مزاياها العلمية، بل جديتها التي لم ترق للبعض. فقد تستطيع بعض المدارس الأخرى في أماكن أخرى من العالم أن تناظر المدارس الابتدائية اليابانية من الناحية العلمية، بل وقد يتمتع الطلبة في هذه المدارس بروح الجماعة أيضاً، ولكن يظل من الصعب أن تعثر على مدرسة تتمتع بنفس الروح التي وجدتها في مدرسة يوكوهاما؛ حيث قام أحد الأفراد بارتكاب حماقة استخدام بخاخ الدهان على حائط مجاور للمدرسة. فكان هذا الأمر بمنزلة ورطة ضخمة!
والواقع أن تصرف أي مدرسة أمريكية تجاه مثل هذا الأمر سيتسم إما بالتجاهل وإما بإرسال أحد الحرالمعالجة الأمر، أما في يوكوهاما فقد تبنى المعلمون موقفاً مختلفاً يستحق أن تؤلف فيه مجلدات من الكتب، تدور كلها عن أهداف التعليم الابتدائي الياباني.
يقول كنتشي ناكامورا، مدير المدرسة «حاولنا أولاً أن نتعرف على مَنْ فعل هذا التصرف لكننا لم نكتشفه، وبدلاً من أن نواصل التحقيق إلى ما لانهاية، فكرنا في جعل المعلمين ينظفون الحائط، وقد يتعلم الطلبة شيئاً ما أيضاً من هذا السلوك. ومن ثم قمنا نحن المعلمين باختيار وقت عودة الأولاد من مدارسهم لنشرع في عملية التنظيف، وبذلك يتيسر لهم رؤيتنا أثناء مرورهم بجوار الجدار المذكور، وفي أعقاب ذلك خرجنا جميعاً وبدأنا في حك الدهان المؤذي، وقد كان عملاً شاقاً، ولكننا نجحنا في النهاية في التخلص من الدهان بعد أن انضمت إلينا حفنة من الطلبة أثناء العمل.
والواقع أنني أعتقد أن من قام برش الدهان سيشعر بالندم والأسف الشديد بعد أن يشهد ما قام به الجميع من أجل إزالة آثار فعلته الكريهة!
بقلم: نيكولاس كريستوف - مجلة نيويورك تايمز
دق جرس انتهاء الفسحة المدرسية، فانطلق الطلبة بمدرسة تاكيهار الابتدائية مسرعين من فناء المدرسة نحو فصولهم؛ ليعودوا في لحظات قصيرة مدججين بالمكانس والمسَّاحات وقطع القماش اللازمة للتنظيف. وبدأ العمل على الفور في أروقة المدرسة التي ضجت بصياح الأولاد والبنات أثناء قيامهم بإخلاء المكان من مخلفات العلب الفارغة.
أما دورات المياه فنظف الأولاد جدرانها البيضاء وتسابق بعضهم فيما بينهم في مسحها بقطع القماش المبللة، وإعادة ترتيب المكان بوجه عام بعد جمع المهملات.
وحيث إن المدارس اليابانية لا يعمل بها أي بواب أو حاجب، لذا فقد أصبح على الطلبة القيام بمهام تنظيف النوافذ والأرضيات بأنفسهم. ومن ثم يُعِدُّ الطلبة - بما فيهم أطفال الصفوف الأولى - أدوات المسح والتنظيف ليقوموا بهذه المهمة كل يوم لمدة عشرين دقيقة.
بعد ذلك يدق جرس المدرسة مرة أخرى ليعلن أنه قد حان الوقت لما يسمى «بجلسة الاعتراف»، فيقوم فتى طويل نحيل من طلبة الصف السادس، ممن يتولون قيادة إحدى جماعات التنظيف، بجمع أعضاء فريقه لإجراء مناقشة بخصوص عمل فترة الظهيرة، وقد دار بينهم الحوار التالي:
+ سأل قائد الجماعة فريقه قائلاً: «هل قمنا بعملنا على ما يرام اليوم؟ط أجاب الآخرون «نعم».
- فرد القائد «وهل أحسنا استخدام وقتنا تماماً؟».
- أجاب الآخرون «نعم».
- واختتم تساؤله قائلاً «وهل أعدنا كل الأدوات إلى أماكنها؟»
- فجاءه الرد بالإيجاب.
لكن هذا الجو المفعم بتهنئة الذات قطعه صوت ضمير إحدى الفتيات الخجولات وتدعى سيرا، وتبلغ من العمر أحد عشر عاماً، حيث قالت« الواقع أننا لم نضع المكانس في مكانها بشكل أنيق». وقد أومأ باقي الأطفال برؤوسهم مقرين بذنبهم، واكتست وجوههم للحظات مسحة من الكآبة بسبب هذا التقصير.
مما سبق يتضح لنا الجانب الذي نفتقده غالباً، ويتميز به التعليم الابتدائي في شرق آسيا. وتشتهر المدارس الابتدائية في اليابان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية بأنها الأفضل عالمياً بسبب أدائها العلمي المتميز. ومع ذلك فالشيء المهم، وخصوصاً في اليابان، لا يتمثل في تخريج أطفال بارعين أذكياء بقدر ما هو الاهتمام بتخريج أطفال جيدين ومسؤولين ومنظمين. فالبرنامج بأسره يهدف إلى تعليم الأطفال العمل معاً والتعاون على حل المشكلات، وهذا البرنامج يؤتي على وجه العموم بثماره. وبصفتي أحد المقيمين بمدينة طوكيو على مدى العامين ونصف العام الأخيرين، لم يكن المكان يروق لي ولا يجذبني كمحل لإقامتي ومعيشتي، يرجع هذا إلى ازدحامه الشديد وإثارته للإزعاج والضجر. بيد أنني مقتنع أن الشعب الياباني الآن بشكل عام هو ألطف الشعوب، وأكثرها تحملاً للمسؤولية في العالم. وقد وصفتهم بالألطف تحديداً دون سائر الأوصاف الأخرى من صداقة وسعادة ومرح، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى النظام التعليمي لديهم.
وها هي مزيو هنزاوا، إحدى الممرضات العاملات بمدرسة في مدينة يوكوهاما تطالع غرفة أحد المدرسين العتيقة وتقول «لو كان لدينا هنا حرّاس أو خدم لكانت هذه المدرسة تشع بريقاً، إلا أنه من المهم للغاية أن نزرع في أولادنا المسؤولية، ونعلمهم أن ينظفوا المكان الذي يستعملونه، فهذا هو أحد أهداف التعليم. وأعتقد أننا بهذه الطريقة نعلِّم أبناءنا كيفية الاعتناء بالأشياء».
إن عملية التأهيل الاجتماعي التي بدأت في المدارس شكلت بعمق المجتمع الياباني، وجعلت كل شخص جزءاً لا يتجزأ من المجتمع.
والحقيقة أن معظم الناس الذين يراقبون النظام التعليمي الياباني يتحمسون له للغاية، إلا اليابانيين، وهذا أمر غريب يحتاج إلى إيضاح. ففي الوقت الذي يبدو فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية تتجه نحو نظام تعليمي أكثر تنظيماً، وأكثر عودة للأسس التعليمية، ويتسم بالالتزام بزي مدرسي، بعد أن صادق الرئيس كلينتون على هذا الأمر، نجد أن اليابان تتجه نحو البعد عن هذا النموذج. ويشكو اليابانيون من أن نظامهم التعليمي المدرسي نسقي وصارم بشكل يضر للغاية بعملية الإبداع. وتعج الصحف اليابانية بقصص الاستئساد على الطلبة الضعفاء، والتلاميذ الذين يرفضون الذهاب للمدرسة، بل واستبعد أحد النقاد اليابانيين نتائج الاختبار الممتازة التي يحققها الطلبة اليابانيون، واعتبرها نتاج عمليات تعليم لا حصر لها ينفذها الطلبة على غرار ما تفعل حيوانات الفقمة (عجل البحر) المدربة.
والواقع أنه أصبح واضحاً تماماً أن نظام التعليم في اليابان قد بدأ يتداعى في مدارس الأحداث العالية (مدارس تشتمل على الصفين السابع والثامن من المرحلة الابتدائية، وعلى السنة الأولى من المرحلة الثانوية) مروراً بعد ذلك بسنوات الجامعة. فالمدارس الثانوية تشبه غالباً أواني الطبخ التي تعمل بالضغط، حيث يعتاد الطلبة حفظ أكبر قدر من الحقائق والمعلومات دون أن يتعلموا في الواقع كيفية التفكير. (على الجانب الآخر تقوم أمي بتدريس مادة تاريخ الفن في إحدى الجامعات الأمريكية، وتقول إنها قد التقت بكثير من الطلبة الذين لا يعرفون الحقائق الأساسية ولا حتى كيف يفكرون!).
على أية حال، فإن الانتقادات الموجهة لنظام التعليم في اليابان جانبها الصواب فيما يتعلق بالمدارس الابتدائية. فتلك المدارس لا تستخدم الزي المدرسي أو القواعد الصارمة، بل إنها تغرس الحماس والإبداع اللذين تدمرهما فيما بعد مدارس الأحداث العالية بكل ما في وسعها. إن مأساة النظام التعليمي في اليابان أن يخرّج طلبة من الصف الخامس يتسمون بالابتهاج، والقدرة على التحدث بطلاقة، لكنهم يصبحون في مدارس الأحداث العالية طلبة متشائمين تماماً.
أين الخطأ إذن؟ إن كثيراً من اللوم يلقى على نظام الالتحاق بالكليات، حيث يعتمد مستقبل الشاب بأسره على أدائه في اختبارات القبول.
وتحدد هذه الاختبارات مصير الطالب في نهاية دراسته، فإما أن يصبح مديراً لشركة ما، وإما أن يصبح مشغل مخرطة، ولا توجد أمامه عادة فرصة أخرى. ومن ثم يدفع الآباء والمعلمون على السواء أبناءهم المراهقين إلى مدارس تعتمد على حشو الدماغ بالمعلومات وعلى الحفظ الذي لا نهاية له؛ لكي يبلوا بلاء حسناً في الاختبارات، وذلك دونما التركيز على ما هو مهم أو مفيد. فالمهم - بمنتهى البساطة - هو التركيز على ما يأتي في الاختبارات. ففي مادة اللغة الإنجليزية - على سبيل المثال - نجد أن الاختبارات تركز على القواعد بدلاً من التركيز على فنون الاتصال والمحادثة، وهو الأمر الذي يجعل خريجي المدارس العليا اليابانية بوسعهم حل أي سؤال في اختبار تحريري، في الوقت الذي يصعب عليهم اجتياز اللغة الإنجليزية محادثة رغم دراستهم اللغة الإنجليزية لمدة ست سنوات.
إن إلمامي وتعرفي على نظام التعليم الياباني جاء بشكل شخصي وصحفي أيضاً. فقد أمضى طفلي فترة الروضة بالمدرسة اليابانية، وأتم ابني الأكبر مرحلة التمهيدي، وكان عليّ أنا وزوجتي أن نقرر هل سنبقي عليهم في النظام التعليمي الياباني أم سنلحقهم بمدرسة دولية؟وقد قال لي ابني «جريجوري» بكل أسى «بابا، أود الالتحاق بمدرسة يابانية فستكون أكثر متعة». وقد قللت من أهمية الأمر وأسقطته من اعتباري قليلاً حيث إن جريجوري يعتقد - على ما يبدو - أن الإنجليزية لغة ميتة أو مهجورة مثل اللغة اللاتينية، لا يتحدثها إلا الآباء والأجداد والعجائز من كبار السن، وقد ارتبطت هذه اللغة في ذهنه غالباً بالأوامر المتعلقة بالذهاب للنوم وإنهاء الطعام الموجود في طبقه. أما اللغة اليابانية كما يراها ويدركها فهي اللغة التي يتحدثها الأطفال.
ولكي أتصور ما يتوجب عليّ فعله قمت بقدر من البحث فزرت المدارس، وتحدثت إلى أولياء الأمور، وفكرت ملياً فيما إذا كانت المدرسة الابتدائية اليابانية ستحول ابني إلى عبقرية فذه أم إلى مجرد إنسان أوتوماتيكي يعمل بطريقة روتينية أو آلية!
وقد صنَّفَتْ أحدث الاختبارات الدولية الطلبة اليابانيين في جميع الصفوف الدراسية ضمن أفضل الطلبة في العالم، وذلك جنباً إلى جنب مع طلبة سنغافورة وكوريا الجنوبية، وعلى النقيض نجد أن طلبة الولايات المتحدة في الصف الرابع فقط كانوا على ما يرام، وفيما عدا ذلك سجلوا تراجعاً في تصنيفهم.
إن وصف نموذج المدارس اليابانية بأنها أشبه بالمؤسسات الصناعية الصغيرة، التي تستخدم العمال بأجور منخفضة وأحوال غير صحية يكاد يكون دقيقاً للغاية بالنسبة للصفوف العليا، في الوقت الذي يعد وصفاً خاطئاً بالنسبة للمدارس الابتدائية. فالطلبة اليابانيون المبتدئون في عملية الإدلاء بأصواتهم في الاقتراعات يميلون على الأرجح إلى التعبير عن استمتاعهم بالمدرسة أكثر من نظرائهم من الطلبة الأمريكيين. وسأطلعكم هنا على فصل الصف الثاني الذي دخلته بمدرسة تاكيهار الابتدائية، الواقعة بمدينة أوميا الصغيرة على بعد 200 ميل جنوب غرب طوكيو، الواقع أنني أزور مدينة أوميا بانتظام على مدى عامين، ولذلك فإنني أعرف كثيراً من المعلمين وأولياء الأمور هناك، وعلى أية حال فإن ما عثرت عليه في المدرسة كان أمراً نموذجياً بكل المقاييس. فقد رأيت ولدين يتصارعان على الأرض، وولدين يمسكان بيد المعلم أثناء تحدثه إلى فتاة أخرى. أما باقي الطلبة فكانوا يهرولون ويصيحون في كل مكان ممزقين بوجه عام صورة المدارس اليابانية كمؤسسات منظمة بشكل صارم. وهذا الفصل - بكل تأكيد - لم يكن في حصة دراسية وإنما كان في وقت الفسحة، وما أكثرها طوال اليوم! ويمضي الطلبة اليابانيون في المدارس الابتدائية وقتاً أطول مما يمضيه نظراؤهم الأمريكيون، كما أنهم يستمتعون بفسح وعطلات أكثر من الأمريكيين، ومع ذلك فعندما استؤنف وقت الدراسة، توارى جو الفوضى المرحة قليلاً.
وقد يبدو أمراً متناقضاً أن يسمح بالفوضى في الفصول الدراسية خصوصاً إذا كانت أهداف التعليم في اليابان تتمثل في تعزيز وتشجيع النظام. إلا أن المعلمين يحاولون تعليم الطلبة الانضباط الذاتي في المقام الأول، ومن ثم نجدهم متسامحين بشكل متميز بشأن سوء السلوك بل والتحدي الصريح لهم. وفي مدرسة تاكيهار، جذبتني طفلة متحمسة من الصف الرابع من ذراعي بشكل لافت للنظر بينما كنت أحاول التحدث مع مدير المدرسة في الفناء، أما هدفها فكان يتمثل في رغبتها في أن أشاركها ما يسمى بلعبة الكرة الناعمة، لكن تصرفها غير المناسب هذا يستوجب رداً فورياً من مدير أي مدرسة في أمريكا، لكن مدير المدرسة الياباني لم يفعل أي شيء، بل سرعان ما انقضت الطفلة عليه وجذبته من ذراعيه بقوة جعلته يتراجع إلى الخلف، فما كان منه إلا أن طلب منها التوقف عن ذلك، لكنها استمرت في سلوكها فاضطر إلى الصبر عليها!
إن المدارس الابتدائية اليابانية تغرس في الطالب إحساساً متعاظماً بالمجتمع، ويتم ذلك عادة من خلال الإبقاء على أفراد الفصل الواحد معاً لمدة عامين، وكذلك المعلم المستمر معهم للفترة نفسها أيضاً، ويتحقق لهم هذا الأمر من خلال إشعار الطلبة بالمسؤولية، علاوة على ذلك نجد أن المعلمين في الفصول الدراسية اليابانية لا ينظر إليهم على أنهم الرؤساء، على الأقل بمفهوم الكلمة في الولايات المتحدة. فالطلبة اليابانيون حينما يرتكبون خطأً ما لا يقوم المعلمون بتصحيح الخطأ، إنما يوكلون هذا الأمر إلى طلبة آخرين، ولا يعاقب المعلمون الطلبة الذين يسيئون التصرف، بل يفضلون أن يجعلوا باقي الطلبة يوبخون المخطئ بما يجعله يشعر بالذنب!
ومثل هذه المعالجة البارعة هي أساس ومفتاح التعليم الابتدائي وقبل الابتدائي في اليابان، والمعلمون في هذه المعالجة يتميزون بالبراعة الفائقة.
وهكذا نجد أنه منذ بداية السنوات الأولى في الدراسة يتولى الأطفال تحمل المسؤوليات المختلفة، فيقوم الطلبة بإحضار وجبة الغداء من مطبخ المدرسة إلى الفصل ويتولون تقديمها لكل فرد، ثم يقومون بتنظيف المكان تماماً بعد ذلك. ويتبادل الأطفال فيما بينهم وبشكل دوري وظيفة مراقب الفصل المنوط به تحقيق النظام في الفصل وجمع الطلبة، ومناقشة أي شؤون مدرسية تخصهم. والمراد من هذه الفكرة هو تعليم الأطفال القيادة وربما - وهذا هو الأهم - تعليمهم المتابعة، لأن هذا الأمر سيخلق حتماً نوعاً من المشاركة العاطفية مع من يتولى مسؤولية تهدئة فصل هائج.
وفي الصف السادس بمدرسة آسو الابتدائية بمدينة أوميا على سبيل المثال، تشاجر فتى وفتاة على من يتولى مهمة السيطرة على الفصل.
وكان ايساتو تكيوشي - معلم الفصل - جالساً على كرسيه في مؤخرة الفصل يراقب الطالبين وهما يناديان الأسماء ويصفان الطلبة، ويجريان نظرة خاطفة على قائمة الأسئلة اليومية: «هل أحد متأخر عن المدرسة اليوم؟ هل أحد مصاب بالإنفلونزا؟ هل أحضر أحدكم علبة مناديل؟» وعندما انتهت جميع الإجراءات التمهيدية تقدم تكيوشي، وبتوجيه من مراقبي الفصل، تبادل المعلم والطلبة انحناءة التحية وقال تكيوشي لطلبته «صباح الخير».
إن تأكيد تعليم المسؤولية للتلاميذ يصدم أحياناً الأمريكيين ويذهلهم. ففي مدارس الحضانة (الروضة) والتمهيدي اليابانية نجد غالباً بعض الأدوات الحادة كالمقصات والسكاكين المسننة موضوعة في كل مكان في المدرسة. ويتم تكليف الطلبة بجملة مهام للقيام بها مثل تحديد الأشياء التي يتم لصقها في كل أنحاء المدرسة. ويقول تاموتسو واكيموتو - مدير مدرسة آسو الابتدائية -: «نحن نترك الأبناء ليقرروا بأنفسهم أهدافهم، وإن كان هذا لا يمنع المعلمين من المساعدة بتقديم الاقتراحات لهم. ويُعقد اجتماع مدرسي كل أسبوعين نناقش فيه الأهداف المرجوة ونتخير أحدها، ثم نعقد جلسة اعتراف للتحدث عن الأشياء التي لم يتم إنجازها على ما يرام.
فعلى سبيل المثال، لوحظ أن صنابير المياه تنقط كثيراً من الماء في الفترة الأخيرة، وعليه قرر الأولاد أن يجعلوا هدفهم هو إغلاق الصنابير بإحكام حينما يستخدمونها».
ويتولى الطلبة في كل فصل وظائف ومهام أخرى أقل. فالطلبة في مجموعة اللعب - على سبيل المثال - يقررون الألعاب التي تُجرى، ومن سيكون في كل فريق، أما مجموعة الدراسة فتتولى قيادة الفصل حينما يتغيب المعلم، ذلك لأنه لا يوجد معلمون بدلاء في المدارس اليابانية، ومن ثم يتولى الطلبة مهمة الاهتمام بأنفسهم.
ويقول واكيموتو - مدير مدرسة آسو الابتدائية - «إذا كان المعلم غير موجود يقوم الطلبة بعمل النشرات والواجبات المنزلية. وبالنسبة لطلبة الصف الأول والثاني يتعين علينا أن ننصب عليهم معلماً، وذلك لقلقنا عليهم كطلبة صغار، أما الأولاد الكبار فيدرسون واجباتهم بهدوء».
وأضاف واكيموتو قائلاً «أما إذا تغيب المعلم لمدة شهر أو أكثر لسبب ما، فإننا نوفر بديلاً له بالطبع».
ولا يقتصر تحميل الطلبة المسؤولية على مجالات الأنشطة غير المنهجية وإنما يمتد إلى الدروس أيضاً.
فحينما يطرح المعلم سؤالاً على الطلبة، يرفعون أيديهم للإجابة، فيتخير المعلم أحد الطلبة فإذا ما أجاب إجابة خاطئة، يتولى طالب آخر على الفور إخباره بذلك، بعد ذلك يدعو المعلم الطلبة لمناقشة القضية أو السؤال المطروح. وحينما يغض الطلبة الطرف عن خطأ ما، أو يبدو أنهم يسيرون في المسار الخطأ، يقوم المعلم بإعادة توجيههم من خلال طرح مزيد من الأسئلة.
في اليوم التالي، كتب الأستاذ شنجي نيشي مسألة رياضية على سبورة المدرسة لطلبة الصف الخامس بمدرسة آسو الابتدائية. تقول المسألة «قطاع من شجرة طوله متر، ويزن 1.2كيلو غرام. فما وزن 3.3 متر من الشجرة نفسها؟ أجب عن السؤال، وقرب الكسر العشري إلى رقم صحيح موضحاً كيفية التوصل إلى الناتج؟».بعد ذلك بدأ الأستاذ نيشي يتجول في غرفة الفصل في الوقت الذي انقسم أعضاء الفصل إلى مجموعات صغيرة، كل مجموعة تضم نحو أربعة طلاب يحاولون التوصل إلى الحل، ثم قامت كل مجموعة بكتابة الحل على السبورة. وهذه المجموعات الصغيرة تعد وحدة التعليم الأساسية في كل فصل تقريباً في اليابان. وتسير معظم مجموعات فصل الأستاذ نيشي على ما يرام، لكن إحداها بداخلها نوع من الصراع، وتضم فتاة صغيرة تدعى تشنامي تشان، وتعد هذه الفتاة الألمع والأبرز في مجموعتها، وقد حلت المسألة بسرعة وحاولت عرضها على الآخرين قائلة «لقد توصلت إلى الحل دعونا نتقدم على الفور للإجابة». فما كان من أحد الطلبة المجتمعين على طاولة المجموعة إلا أن عبر عن امتعاضه وانزعاجه من طبيعتها المسيطرة، وقال لها إنني أفكر في حلها بطريقة أخرى فتمهلي.والحقيقة أنه كان في الخطوة الأخيرة لحل مماثل لما طرحته زميلته تشنامي تشان، لكنه قام بمحو خطوات الحل التي توصل إليها وآثر محاولة تصور طريقة أخرى لحل المسألة، وذلك حفظاً لماء وجهه إثر بطئه في الإجابة. وقد اجتهد الفتى في كتابة معادلات مختلفة قدر المستطاع عن معادلات تشنامي تشان، وقد توصل أثناء هذه العملية إلى فهم وإدراك ممتاز للمسألة المطروحة.وسجلت كل مجموعة الحل الذي توصلت إليه على السبورة وكان 3.96 كيلو غرام، لكن بعض المجموعات وجدت بعد ذلك صعوبة في تحويل الكسر العشري إلى الحل النهائي الصحيح وهو 4 كيلو غرامات. علاوة على ذلك، فقد استخدمت كل مجموعة معادلات مختلفة للتوصل إلى الناتج. وقامت كل مجموعة بشرح ناتجها، وكان كل فرد من أعضاء المجموعة يشارك بجزء في هذا الشرح، ويعلن استعداده للإجابة عن أي سؤال للطلبة الذين تحمسوا بدورهم لإمطاره بوابل من الأسئلة.وقد تساءل أحد الطلبة «من أين استخلصت الرقم 4؟» وحينما انتقد طالب آخر طريقة حل إحدى المجموعات، دعاه الأستاذ نيشي إلى المثول أمام الجميع وتدوين المعادلات التي يعتقد أنها صحيحة. فتقدم الطالب بكل ثقة وبدأ يكتب باهتياج شديد وسرعان ما ارتبك وضل طريقه، فقال بعد أن تراجع إلى مقعده وفكر ملياً «إنها صعبة للغاية».
وتتميز المدارس اليابانية بميزة أخرى غريبة الأطوار وتتمثل في الحماس الزائد لكلٍّ من الطلبة والمعلمين على السواء بخصوص تعليم القيم. ويبدي المعلمون أحياناً بشاشة وعذوبة تجعل أشد الناس تفاؤلاً يتضاءل أمامهم. وتعج الفصول بالشعارات المبهجة مثل «سنبذل ما في وسعنا في كل شيء» أو «كن نشيطاً ومرحاً وودوداً ومعيناً للآخرين»، ويضع كل طالب نصب عينيه أهدافاً يتمنى تحقيقها خلال العام.
ويعكس التركيز على الشعارات والأهداف اختلافاً أساسياً بين منظور أمريكا وآسيا للتعليم.
وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن الآسيويين يرون أن التميز الأكاديمي أو العلمي يتأتى في المقام الأول من الاجتهاد، بينما يميل الأمريكيون إلى أن ينسبوا التفوق للذكاء الفطري. ونتيجة لذلك يحفز أولياء الأمور اليابانيون أطفالهم على الاجتهاد «والأطفال بدورهم يحفزون أنفسهم» لاعتقادهم بأن ذلك سيحقق فروقاً واختلافاً جوهرياً.
وترى إحدى هيئات البحث البارزة أن الأطفال في آسيا يبلون بلاء حسناً في المدارس، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى أن أولياء الأمور يحددون لأولادهم أهدافاً كبيرة يسعى أطفالهم بعد ذلك لاستيعابها وتحقيقها، بينما يتردد أولياء الأمور الأمريكيون في تحفيز ودفع أبنائهم كثيراً للاجتهاد.
ومن ثم فأولياء الأمور اليابانيون يحددون معايير مرتفعة، بينما يكتفي أولياء الأمور الأمريكيون بمعايير منخفضة: وفي كلتا الحالتين نجد أن الأولاد مضطرون إلى الوفاء بما يطلب منهم.
ومن بين الوسائل الجــوهرية لرفــع مستوى الأطفال في اليابان في البيت والمدرسة نجد ما يســــمى بـ «هانسي» وهي كلمة ذات معان مختلفة، إذ تعني «الخزي»، أو« الاعتذار» أو «الأسف العميق». فحينما يرتكب الأطفال خطأ ما، يفترض أن يعبروا عن أسفهم العميق، وفي بعض المدارس توجد جلسات اعتذار، أما فكرة الجلسات فتقوم على مبدأ مؤداه أن اعتراف الطلبة بأخطائهم وتقصيرهم هو السبيل الوحيد للتغلب على جوانب النقص والضعف. ولذلك ينتهي كل يوم دراسي في مدرسة تاكيهار الابتدائية باجتماع للفصل وجرعة هانسي أو اعتذار.
وفي فصل الصف الثالث، أعلنت الفتاتان المراقبتان - في ذلك اليوم - عن بدء اجتماع الانصراف من المدرسة، لكن الاجتماع حفل بضوضاء وصخب شديدين فما كان من المعلم إلا أن تراجع للوراء رافضاً إنقاذ المراقبتين من ورطتهما. فقالت إحدى الفتاتين مناشدة زملاءها «من فضلكم، نرجو التزام الهدوء» وبدأت الجلبة تنخفض قليلاً، فقالت المراقبة الأخرى «دعونا نتأكد من أننا حققنا أهدافنا اليوم. هل دخلنا فصولنا على وجه السرعة حينما دق الجرس؟».
وعلى الفور رفع الطلبة أيديهم علامة الإيجاب فعاودت المراقبة السؤال «وهل قمنا بعملية التنظيف بمنتهى الجدية؟»، فجاءت الإجابة مرة أخرى بالإيجاب. وواصلت المراقبة تصفح قائمة المراجعة بيد أن الشخص الوحيد الذي على ما يبدو أنه أخطأ في مرامه كان كازوا كون الذي نسى كتابه في البيت، ومن ثم وقف كازوا كون أمام زملائه وعبر عن أسفه واعتذاره للفصل قائلاً «سأحرص على ألا أترك أي شيء في البيت منذ الآن».
والواقع أن تلك الجدية - التي لا نجدها إلا في محافل الدروس الدينية - أشبه بالتمثيلية التحذيرية التي سرعان ما تزول مع نهاية اليوم الدراسي، بل إنها تتحول إلى نوع من السخرية في مدارس الأحداث العالية. لكن هذه الجدية تعاود الظهور مرة أخرى في مرحلة البلوغ وتسود إلى حد ما في المجتمع الياباني.
وهذا هو السبب في أن التهكم لا يحقق المرجو منه غالباً في اليابان، ولا يثير الضحك، بل يثير الحيرة فقط.
ونصل إلى وسيلة أخرى من الوسائل التي تتبعها المدارس اليابانية لزرع الإحساس بالجماعة والمجتمع، وكذلك لخلق مهارات علمية غير عادية، وتتمثل هذه الوسيلة ببساطة في الإبقاء على الطلبة في الفصول لفترة أطول. ولذلك يمضي طلبة المدارس الابتدائية في جميع أنحاء شرق آسيا عدد ساعات دراسية أطول من التي يمضيها الأمريكيون في مدارسهم، ويتمتعون أيضاً بعطلات مدرسية أقل، لدرجة أن الطالب الياباني أو الصيني العادي يفوق نظيره الأمريكي في فترات الدراسة بما يوازي سنة دراسية، وذلك مع نهاية الصف السادس الابتدائي.
فعطلة مدرسة تاكيهار الصيفية - على سبيل المثال - تستمر ستة أسابيع فقط، من منتصف شهر يوليو حتى نهاية شهر أغسطس، ويمنح الطلبة واجبا منزليا لإتمامه خلال هذه الفترة.
وهناك نقطة أخرى مهمة تتميز بها المدارس اليابانية وتتمثل في القيمة العقلية للتعليم الياباني، الذي يلقى احتراماً واسعاً في الدراسات الدولية. فبرنامج دراسة الرياضيات والعلوم الدولي الثالث، الذي يقوم بمقارنة إنجازات الطلبة في 45 دولة منذ عام 1990، ويعد أحد برامج البحث الشاملة للغاية، دعا خبراء الرياضيات لدراسة السجلات المدرسية (دفاتر علامات الطلاب) لمادة الرياضيات لطلبة الصف الرابع في دول عديدة، ثم تصنيف هذه المعدلات. وقد قال الخبراء إن 30% من دروس الرياضيات اليابانية ذات نوعية مرتفعة، و57% منها متوسطة المستوى، و13% ذات نوعية منخفضة، بينما لم يجد الخبراء في الرياضيات التي تُدرس في الولايات المتحدة أي مستوى مرتفع النوعية، ووجدوا أن 13% من الدروس ذات نوعية متوسطة و87% منها ذات نوعية منخفضة!
وبالطبع هناك بعض المدارس الابتدائية في الولايات المتحدة تتمتع بنفس مستوى المعلمين الممتازين، والالتزام بالتعليم الأخلاقي المتوافرين في المدارس اليابانية، لكن هذه المدارس غالباً ما تكون مؤسسات خاصة ومكلِّفة. وعلى النقيض من ذلك، نجد أن المدارس الابتدائية اليابانية تقدم فرصاً متساوية بشكل مميز لـ 99% من الأطفال المقيدين بالمدارس الابتدائية الحكومية، ولا توجد فروق تذكر بين المدارس الموجودة في المناطق الغنية وتلك الموجودة في المناطق الفقيرة كالذي يحدث في أمريكا.
أما أحد أسباب جودة التعليم في اليابان فتكمن في جذب مهنة التعليم لأفضل العناصر البشرية. ويظهر احترام المعلمين في اليابان في استطلاعات الرأي، حيث يحتل المعلمون مكانة تفوق منزلة المهندسين، أو المسؤولين في إدارة المدينة.
ويتلقى المعلمون أيضاً رواتب طيبة للغاية، وتفوق رواتبهم عموماً دخول الصيادلة والمهندسين، ومن ثم نجد أن هناك خمسة متقدمين لكل وظيفة تعليمية شاغرة في العام الواحد.
وعندما تعرفت على هذه الجوانب الخاصة بالتعليم الياباني، وقمت بزيارة الفصول الدراسية هناك، تأثرت بذلك للغاية. بيد أنني تحدثت مع زملائي في مسألة إلحاق ابني بمدرسة يابانية فتعرفت على رأيين، أحدهما لزملائي الأمريكيين الذين استحسنوا الفكرة واعتبروها فكرة عظيمة، والأخرى لزملائي اليابانيين الذين اعتقد معظمهم أنني مجنون. ولقد حدثتهم بأن العلماء الغربيين يعتبرون أن المدارس اليابانية الابتدائية قد تكون الأفضل في العالم بأسره، فما كان منهم إلا أن حملقوا فيّ كما لو كنت مجنوناً!
أما أعظم ما بهرني في المدارس اليابانية فلم يكن مزاياها العلمية، بل جديتها التي لم ترق للبعض. فقد تستطيع بعض المدارس الأخرى في أماكن أخرى من العالم أن تناظر المدارس الابتدائية اليابانية من الناحية العلمية، بل وقد يتمتع الطلبة في هذه المدارس بروح الجماعة أيضاً، ولكن يظل من الصعب أن تعثر على مدرسة تتمتع بنفس الروح التي وجدتها في مدرسة يوكوهاما؛ حيث قام أحد الأفراد بارتكاب حماقة استخدام بخاخ الدهان على حائط مجاور للمدرسة. فكان هذا الأمر بمنزلة ورطة ضخمة!
والواقع أن تصرف أي مدرسة أمريكية تجاه مثل هذا الأمر سيتسم إما بالتجاهل وإما بإرسال أحد الحرالمعالجة الأمر، أما في يوكوهاما فقد تبنى المعلمون موقفاً مختلفاً يستحق أن تؤلف فيه مجلدات من الكتب، تدور كلها عن أهداف التعليم الابتدائي الياباني.
يقول كنتشي ناكامورا، مدير المدرسة «حاولنا أولاً أن نتعرف على مَنْ فعل هذا التصرف لكننا لم نكتشفه، وبدلاً من أن نواصل التحقيق إلى ما لانهاية، فكرنا في جعل المعلمين ينظفون الحائط، وقد يتعلم الطلبة شيئاً ما أيضاً من هذا السلوك. ومن ثم قمنا نحن المعلمين باختيار وقت عودة الأولاد من مدارسهم لنشرع في عملية التنظيف، وبذلك يتيسر لهم رؤيتنا أثناء مرورهم بجوار الجدار المذكور، وفي أعقاب ذلك خرجنا جميعاً وبدأنا في حك الدهان المؤذي، وقد كان عملاً شاقاً، ولكننا نجحنا في النهاية في التخلص من الدهان بعد أن انضمت إلينا حفنة من الطلبة أثناء العمل.
والواقع أنني أعتقد أن من قام برش الدهان سيشعر بالندم والأسف الشديد بعد أن يشهد ما قام به الجميع من أجل إزالة آثار فعلته الكريهة!
بقلم: نيكولاس كريستوف - مجلة نيويورك تايمز
trahmya- الوسام الذهبي
-
عدد الرسائل : 580
تاريخ الميلاد : 04/02/1988
العمر : 36
الدولة : maroc
المهنة : ts cttp
المدينة : kelaa m'gouna
الدولة :
احترام قوانين المنتدى :
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى