تحت مخدة الكون لـ لبنى المانوزي
4 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
تحت مخدة الكون لـ لبنى المانوزي
" كتابة الاختلاف "
بقلم : فؤاد أفراس
عن منشورات( بيت الشعر في المغرب ) و في إطار سلسلة ( عتبات ) ، صدر للشاعرة المغربية ( لبنى المانوزي ) ديوانها الأول تحت عنوان ( تحت مخدة الكون ) 1 ، و ( لبنى المانوزي ) تنتمي إلى تلك القلة النادرة من الشاعرات المغربيات اللواتي يكتبن الاختلاف ، و ينزحن عن التقليد و التشابه ، لأنها اختارت السير في الطرقات غير المطروقة ، و الخوض في الدروب الضيقة و الوعرة ، و هذا ما يكشف عنه هذا العمل ، بعوالمه البعيدة و لغته الشديدة الخصوصية ، مما استعصى معنا طرح أية فرضيات مسبقة للقراءة ، و سنعمد بالمقابل إلى التنقل بين عوالم الديوان ، متوقفين عند خصيصة هنا و عنصر هناك ..
الديوان عبارة عن شذرات مرقمة ، و تستفتحه الشاعرة بشذرة غير مرقمة باعتبارها عتبة و مدخل لعملها الشعري :
( في البدء كانت الصحراء تتلعثم
و كنت بقدمين حافيتين
أجر العطش
بين قرب و قرب
كانت القافلة تصاب بالحمى
و الجراب تنضح بسلالات عمياء ) ص : 3
هذا المدخل يبدأ بعبارة ( في البدء كانت الصحراء تتلعثم ) ، و هي تحوير أو إضافة دلالية للعبارة الخالقة ( في البدء كانت الكلمة ) ، فمن الكلمة الخالقة إلى الصحراء المتلعثمة ، من الكلمة المسند إليها فعل الخلق و التكوين ، إلى الصحراء المسند إليها فعل التلعثم المعبر عن المخاض و لحظة الطلق ، فالكلمة الخالقة و الصحراء كلاهما موحش و معبر عن الخلاء أو العدم ، ما داما يشكلان العتبة للحظة الخلق و الانبثاق ، كما تحضر العناصر التكوينية التالية ( العطش ، القافلة ، الجراب ) لتأتلف مع دال الصحراء ، و تعبر عن لحظة ما قبل الخلق و التكوين و الإعمار ، و بالضبط عن لحظة التيه ، و قياس المسافة بين العدم و الكينونة ( العطش ، الحمى ، العماء ) ، و هاجس الخلق يهيمن على هذا العمل ، و تعبر عنه الشاعرة أحيانا بالمخاض :
( لأخوض
في إشارات أكبر من قدمي
يتلبسني
مخاض اليرقة ) ص : 37
فما تكون يا ترى هذه الإشارات الأكبر من القدم من غير الهاوية ، فالقدم التي من المفروض أنها مصدر للتوازن و الثبات على بساط الاكتمال ، تصبح هنا مغروسة في الهاوية و النقصان :
( أيتها النبؤات المثقلة كاهلي بالعتاقة
صهاريجك منطفئة
لا تصغي لقدمي ) ص : 15
إنها القدم التي تريد أن تصنع الطريق ، و تطبع الأثر ، و تخلف العلامة ، بتثبيت الخطوة ، و تفعيل السير ، إنها القدم التي تكتشف الأسماء و الأشياء بعد حادثة سقوطها و زللها عن مقامها الأول ، حيث لم تكن ثمة معرفة / خطيئة ، بل كان النسيان الشاسع و العري التام و الطفولة الحالمة :
( الرؤية المحدودبة
التي تشاكس قدمي
قبل الهبوط الأول
اكتشاف ) ص : 12
و حادثة الهبوط يمكننا أن نرصدها في شذرات أخرى من مثل :
( الباب الأفعى
الدال على غير اسمه
لولا لدغته البيضاء
لما أبصرت
تلك النقطة البرزخ المتدلية
بيني و بين وشمي ) ص : 31
إنها لدغة مرتبطة بالإبصار ، أي بالمعرفة و الإدراك ، أو لنقل باليقظة و وعي المسافة بين الذات و العالم ، هذه المسافة هي ما عبرت عنها الشاعرة بالبرزخ ، أي الحاجز بين الشيئين كما ورد في لسان العرب .. و هذا المقطع يحيلنا على قصة آدم مع الأفعى ، حيث كان آدم يعيش الذهول و النسيان إلى أن شملته اليقظة بعدما أكل من شجرة المعرفة المحرمة بإيعاز من الأفعى ، مما جعله يعي الفروقات بين ذاته و الآخر ، فطفق يستر عريه أو لنقل اختلافه و انفصاله عن ما حوله ، بعدما كان يعيش الانسجام و التطابق .. و تحضر اليقظة أيضا مقرونة _ هذه المرة _ بالوسوسة :
( سيدة الوقت
المتكئة على رف الظل
تضيئنا بوسوسة
كفيلة بإيقاظ
أنهار كبرى ) ص : 44
إنها وسوسة الغواية التي تضيء الوعي المنطفيء و الساكن ، و توقظه ليعيش حركته و انسيابه و مجراه ، و بالتالي مغامرته و مجازفته بعيدا عن كل ما يلجمه و يحد من حركته ، فيختبر إمكاناته و طاقته بما فيها حالة الندم و التيه ثم التوق للعودة إلى الحالة الأصل ، أو هي اليقظة المرتبطة بالفاكهة ، الفاكهة المحرمة على عموم الناس و المبذولة للشعراء و حدهم باعتبارهم أسياد المجاز ، و منتهكين لسنن اللغة في بعدها التواصلي المباشر :
( فواكه اللغة أسميها يقظة في فضاء المجاز .. ) ص : 58
كما أن اليقظة قد لا تحضر مباشرة بالاسم بل بما يوحي بها و يشير إليها :
( أيها الوثن المعلق
كقرط أعمى
القرنفلة الجاثمة
عند باب الكون
تنفض قيامتك ) ص : 5
فالقرنفلة الجاثمة تحضر مثل انتباهة فجائية ، تخرج الوثن من حالة العمى و السكون إلى حالة البعث و الفعل ، و هكذا فالشاعرة تحاور طفولة الكون ، محاولة رسم إمكانيات أخرى لمساره و تحولاته ، لذلك نألف الشاعرة تنتقل على مدار هذا الديوان بين الأشياء ، تارة في سكونها و انطفائها و تارة أخرى في قيامها و انبعاثها ، و هي بهذا تجسد سيرة الكائن في صيرورته و تحولاته من خلال رصد الأفعال و الحالات الدالة على ذلك :
( من نفس النقطة
يبدأ كل شيء
يتحول ثم يتداعى
كجناح حكمة لقيطة ) ص : 14
فعبر مسار الديوان ، نقف على مشهديات تتأرجح الواحدة منها بين السكون الموحش و القاسي و بين الحركة المنفتحة و المفضية ، و كأن الشاعرة تنتقل بنا بين مساحات من الضوء و الظل ، بين عتبات من الإبصار و العماء .. كما عمدت الشاعرة في توصيفها لفعل الخلق إلى اعتماد المواد المساهمة في هذا الفعل من ماء و لغة و شمس و خيال ، مازجة في ذلك بين ما ينتمي إلى الثقافة و بين ما ينتمي إلى الطبيعة :
( بمعاول رطبة
ينحتون اللغة
هؤلاء الصاعدون من الماء
يلتحفون الليل
صوب الشك الأول
يتجهون
الأتربة شقاء خالد
يزحف حول فراشاتهم ) ص : 8
نحت اللغة و تشكيلها يتم بمعاول رطبة هي معاول الخيال في مرونته و ليونته ، و مع تشكل اللغة يتشكل واقع مختلف ، يتجلى مثل شك أول ، أو مثل دهشة أولى .. فالماء يحضر مرادفا للمخيلة في انسيابها و داوم تحولها ، و في قدرتها على نحت الصور و تشكيل اللغة من أجل إثبات واقع مختلف و مغاير ميسمه هو الجمال ، فالخصائص المادية للماء تشبه إلى حد بعيد الخصائص الأثيرية للخيال ، أو لنقل إن الخيال يجد تجسيمه و صورته في الماء ، و هذا الربط بين الماء و الخيال نجد له جذورا كثيرة في ثقافتنا العربية و الإنسانية :
( البياض يغري أنثاه
بسقف البلور
فلا تعده ببئر
هو المهاجر
من ماء صوب ماء ) ص : 24
إنه الخيال الذي يستعصي على الحصر و التقييد في ظرفية معينة و بعد واحد ( البئر ) ، و يمارس هجرته منه و إليه ، في حركة تهدم لتبني ، تهدم الآني و الجاهز لتثبت الغائب و المختلف :
( نصف الماء متكأ الشمس و الأصداف الرطبة
يرتب دواخل الرمل
بيدين أورثتهما الحركة
ذوبان المعادن ) ص : 62
فإذا كان الماء يستدعي الحياة الغائبة عن المادة الميتة باعتباره وسيطا بين المادة و الحياة التي تسري فيها ، فإن الخيال أيضا يستدعي الغائب و المجهول و المبهم ليأتلف مع الجاهز و الحاضر و المألوف ، مانحا للصور المكررة و للغة المباشرة الحياة ، من خلال فتحها على حركة التأويل و التفسير و ما يستدعيه ذلك من دهشة و انفعال ، فاللغة العادية و المباشرة هي في حكم الميتة ، لأن ماهيتها مكتملة في الوعي و الإدراك ، و بالتالي ثمة لا حركة تستوجبها منا ، أي لا انفعال أو دهشة أو تأمل ، حتى يحضر الخيال باعتباره وسيطا بين المعلوم و المجهول ، و بين الحسي و المجرد ، فيبعث اللغة من جديد بعدما يسقط ماهيتها في النقصان :
( الذاكرة مضيئة بنقصانها ) ص : 25
فالذاكرة باعتبارها نشاطا عقليا ، لا يبرز نشاطها ذاك ، و إضاءتها إلا في النقصان ، أي فيما يشكل بالنسبة لها موضوع غياب و بتر و نسيان و عتمة ، فتحاول استعادة هذا الموضوع بالاستناد على المعلوم و الحاضر و المعروف ، أي أن المبتور و الناقص يضيء غيابه الحاضر و المعلوم ، كما هو الحال مع الصور المتخيلة ، فهي مجهول أو إمكان بالقوة ، و لا تتخذ وضعية الوجود بالفعل إلا بتركيب مادتها و أجزائها من المعطيات الحاضرة أمامنا :
( اللغة فاتنة
تقودنا بحذر
نحو أقدارنا الأشد غموضا
من يرقة لم تولد بعد ) ص : 56
و هذه الإشارة نلمسها في شذرة أخرى :
( دودة الحبر
تناص كوني
مع دال تنسجه عين عمياء ) ص : 26
لنقف عند هذا التركيب ( دودة الحبر ) ، الذي يألف بين الدودة و الحبر ، بسبب اشتراكهما في نفس الفعل و التأثير ، الدودة التي تقضم المادة المتعينة و المكتملة ، لتنخر و تغيب جزءا من صورتها ، و تسم ماهيتها بالنقصان ، فهي تعمل عمل الحبر على الورق ، عندما يملأ الحبر بياض الورق بالثقوب بما يخطه عليه من حروف ، لكنها ثقوب ممتلئة بالدلالة و فائضة بالمعنى :
( الخطوة خيط
يحدث
في الروح
ثقوبا ممتلئة ) ص : 53
و لنلاحظ هذا الانسجام الصوتي بين ( الخطوة ) و ( الخيط ) ، بسبب تواتر حرفي الخاء و الطاء ، مما يستدعي معه دالا آخر يؤلفهما و يوحدهما و يتمثل في كلمة ( خط ) ، هذه الكلمة الأخيرة التي تنحدر من نفس الحقل الدلالي الذي ينتمي إليه الحبر و هو حقل الكتابة ، فالحبر يغيب و يفني الأجزاء المهترئة و المتحللة من الوجود بفعل اكتمال هذه الأجزاء و نضوجها و بالتالي سقوطها في دورة أخرى من التحلل و التكون ، إنه حبر الشعر الذي يخط دوالا ناقصة لأن أكثر مدلالوتها منخورة و مغيبة بالبياض و بالصمت ، مما يستدعي معه قوة التأويل لترميم المبتور و الغائب من الدلالة ، كما هو الحال مع التناص ، حيث النصوص الصامتة و المغيبة و المحولة لها مساحة من الحضور أكبر من النص المتعين و المكتمل بما أن تلك النصوص تمثل آليات تشكل ه و مواد نسجه الخفيتين ، أو ما سمته الشاعرة : ( تناص كوني ) ، مازجة في هذا التركيب بين الثقافة ( النص ) و الطبيعة ( الكون ) على اعتبار أن كليهما موضوع خلق ..
إن ( لبنى المانوزي ) قد أسست بهذا العمل الشعري للاختلاف ، و لم تحصر نفسها في تلك المنطقة الاعتيادية التي تأتينا منها أغلب نصوص الشاعرات المغربيات ، و المتمثلة في خطاب النسوية الضيق ، و الذي أصبح ينتصب أمامنا – من كثرة تكراره و شيوعه – مثل إيديولوجيا و مسلمة غير قابلة للتطوير و النقض ، مما جعلنا نضرب صفحا عن الكثير من تلك الأعمال ، و بالتالي فلبنى وضعت قدمها أو بالأحرى قلمها في منطقة لم يطلها الاكتمال ، منطقة يؤثثها الردم و الهدم ، أو ما عبر عنه الشاعر ( عنترة بن شداد ) في بيته الشعري الشهير بالمتردم ، ذلك البيت الذي صاغه على شاكلة استفهام استنكاري بعدما تلبسه قلق المتشابه و المكرر باحثا في ذلك البيت / السؤال عن أفق للاختلاف و التمايز ، و هو ما قدمته لنا الشاعرة ( لبنى المانوزي ) في هذا العمل و هي تؤسس لكتابة الاختلاف .
***
هامش :
لبنى المانوزي ( تحت مخدة الكون ) منشورات بيت الشعر في المغرب ، سلسلة عتبات . الطبعة الأولى 2009
بقلم : فؤاد أفراس
عن منشورات( بيت الشعر في المغرب ) و في إطار سلسلة ( عتبات ) ، صدر للشاعرة المغربية ( لبنى المانوزي ) ديوانها الأول تحت عنوان ( تحت مخدة الكون ) 1 ، و ( لبنى المانوزي ) تنتمي إلى تلك القلة النادرة من الشاعرات المغربيات اللواتي يكتبن الاختلاف ، و ينزحن عن التقليد و التشابه ، لأنها اختارت السير في الطرقات غير المطروقة ، و الخوض في الدروب الضيقة و الوعرة ، و هذا ما يكشف عنه هذا العمل ، بعوالمه البعيدة و لغته الشديدة الخصوصية ، مما استعصى معنا طرح أية فرضيات مسبقة للقراءة ، و سنعمد بالمقابل إلى التنقل بين عوالم الديوان ، متوقفين عند خصيصة هنا و عنصر هناك ..
الديوان عبارة عن شذرات مرقمة ، و تستفتحه الشاعرة بشذرة غير مرقمة باعتبارها عتبة و مدخل لعملها الشعري :
( في البدء كانت الصحراء تتلعثم
و كنت بقدمين حافيتين
أجر العطش
بين قرب و قرب
كانت القافلة تصاب بالحمى
و الجراب تنضح بسلالات عمياء ) ص : 3
هذا المدخل يبدأ بعبارة ( في البدء كانت الصحراء تتلعثم ) ، و هي تحوير أو إضافة دلالية للعبارة الخالقة ( في البدء كانت الكلمة ) ، فمن الكلمة الخالقة إلى الصحراء المتلعثمة ، من الكلمة المسند إليها فعل الخلق و التكوين ، إلى الصحراء المسند إليها فعل التلعثم المعبر عن المخاض و لحظة الطلق ، فالكلمة الخالقة و الصحراء كلاهما موحش و معبر عن الخلاء أو العدم ، ما داما يشكلان العتبة للحظة الخلق و الانبثاق ، كما تحضر العناصر التكوينية التالية ( العطش ، القافلة ، الجراب ) لتأتلف مع دال الصحراء ، و تعبر عن لحظة ما قبل الخلق و التكوين و الإعمار ، و بالضبط عن لحظة التيه ، و قياس المسافة بين العدم و الكينونة ( العطش ، الحمى ، العماء ) ، و هاجس الخلق يهيمن على هذا العمل ، و تعبر عنه الشاعرة أحيانا بالمخاض :
( لأخوض
في إشارات أكبر من قدمي
يتلبسني
مخاض اليرقة ) ص : 37
فما تكون يا ترى هذه الإشارات الأكبر من القدم من غير الهاوية ، فالقدم التي من المفروض أنها مصدر للتوازن و الثبات على بساط الاكتمال ، تصبح هنا مغروسة في الهاوية و النقصان :
( أيتها النبؤات المثقلة كاهلي بالعتاقة
صهاريجك منطفئة
لا تصغي لقدمي ) ص : 15
إنها القدم التي تريد أن تصنع الطريق ، و تطبع الأثر ، و تخلف العلامة ، بتثبيت الخطوة ، و تفعيل السير ، إنها القدم التي تكتشف الأسماء و الأشياء بعد حادثة سقوطها و زللها عن مقامها الأول ، حيث لم تكن ثمة معرفة / خطيئة ، بل كان النسيان الشاسع و العري التام و الطفولة الحالمة :
( الرؤية المحدودبة
التي تشاكس قدمي
قبل الهبوط الأول
اكتشاف ) ص : 12
و حادثة الهبوط يمكننا أن نرصدها في شذرات أخرى من مثل :
( الباب الأفعى
الدال على غير اسمه
لولا لدغته البيضاء
لما أبصرت
تلك النقطة البرزخ المتدلية
بيني و بين وشمي ) ص : 31
إنها لدغة مرتبطة بالإبصار ، أي بالمعرفة و الإدراك ، أو لنقل باليقظة و وعي المسافة بين الذات و العالم ، هذه المسافة هي ما عبرت عنها الشاعرة بالبرزخ ، أي الحاجز بين الشيئين كما ورد في لسان العرب .. و هذا المقطع يحيلنا على قصة آدم مع الأفعى ، حيث كان آدم يعيش الذهول و النسيان إلى أن شملته اليقظة بعدما أكل من شجرة المعرفة المحرمة بإيعاز من الأفعى ، مما جعله يعي الفروقات بين ذاته و الآخر ، فطفق يستر عريه أو لنقل اختلافه و انفصاله عن ما حوله ، بعدما كان يعيش الانسجام و التطابق .. و تحضر اليقظة أيضا مقرونة _ هذه المرة _ بالوسوسة :
( سيدة الوقت
المتكئة على رف الظل
تضيئنا بوسوسة
كفيلة بإيقاظ
أنهار كبرى ) ص : 44
إنها وسوسة الغواية التي تضيء الوعي المنطفيء و الساكن ، و توقظه ليعيش حركته و انسيابه و مجراه ، و بالتالي مغامرته و مجازفته بعيدا عن كل ما يلجمه و يحد من حركته ، فيختبر إمكاناته و طاقته بما فيها حالة الندم و التيه ثم التوق للعودة إلى الحالة الأصل ، أو هي اليقظة المرتبطة بالفاكهة ، الفاكهة المحرمة على عموم الناس و المبذولة للشعراء و حدهم باعتبارهم أسياد المجاز ، و منتهكين لسنن اللغة في بعدها التواصلي المباشر :
( فواكه اللغة أسميها يقظة في فضاء المجاز .. ) ص : 58
كما أن اليقظة قد لا تحضر مباشرة بالاسم بل بما يوحي بها و يشير إليها :
( أيها الوثن المعلق
كقرط أعمى
القرنفلة الجاثمة
عند باب الكون
تنفض قيامتك ) ص : 5
فالقرنفلة الجاثمة تحضر مثل انتباهة فجائية ، تخرج الوثن من حالة العمى و السكون إلى حالة البعث و الفعل ، و هكذا فالشاعرة تحاور طفولة الكون ، محاولة رسم إمكانيات أخرى لمساره و تحولاته ، لذلك نألف الشاعرة تنتقل على مدار هذا الديوان بين الأشياء ، تارة في سكونها و انطفائها و تارة أخرى في قيامها و انبعاثها ، و هي بهذا تجسد سيرة الكائن في صيرورته و تحولاته من خلال رصد الأفعال و الحالات الدالة على ذلك :
( من نفس النقطة
يبدأ كل شيء
يتحول ثم يتداعى
كجناح حكمة لقيطة ) ص : 14
فعبر مسار الديوان ، نقف على مشهديات تتأرجح الواحدة منها بين السكون الموحش و القاسي و بين الحركة المنفتحة و المفضية ، و كأن الشاعرة تنتقل بنا بين مساحات من الضوء و الظل ، بين عتبات من الإبصار و العماء .. كما عمدت الشاعرة في توصيفها لفعل الخلق إلى اعتماد المواد المساهمة في هذا الفعل من ماء و لغة و شمس و خيال ، مازجة في ذلك بين ما ينتمي إلى الثقافة و بين ما ينتمي إلى الطبيعة :
( بمعاول رطبة
ينحتون اللغة
هؤلاء الصاعدون من الماء
يلتحفون الليل
صوب الشك الأول
يتجهون
الأتربة شقاء خالد
يزحف حول فراشاتهم ) ص : 8
نحت اللغة و تشكيلها يتم بمعاول رطبة هي معاول الخيال في مرونته و ليونته ، و مع تشكل اللغة يتشكل واقع مختلف ، يتجلى مثل شك أول ، أو مثل دهشة أولى .. فالماء يحضر مرادفا للمخيلة في انسيابها و داوم تحولها ، و في قدرتها على نحت الصور و تشكيل اللغة من أجل إثبات واقع مختلف و مغاير ميسمه هو الجمال ، فالخصائص المادية للماء تشبه إلى حد بعيد الخصائص الأثيرية للخيال ، أو لنقل إن الخيال يجد تجسيمه و صورته في الماء ، و هذا الربط بين الماء و الخيال نجد له جذورا كثيرة في ثقافتنا العربية و الإنسانية :
( البياض يغري أنثاه
بسقف البلور
فلا تعده ببئر
هو المهاجر
من ماء صوب ماء ) ص : 24
إنه الخيال الذي يستعصي على الحصر و التقييد في ظرفية معينة و بعد واحد ( البئر ) ، و يمارس هجرته منه و إليه ، في حركة تهدم لتبني ، تهدم الآني و الجاهز لتثبت الغائب و المختلف :
( نصف الماء متكأ الشمس و الأصداف الرطبة
يرتب دواخل الرمل
بيدين أورثتهما الحركة
ذوبان المعادن ) ص : 62
فإذا كان الماء يستدعي الحياة الغائبة عن المادة الميتة باعتباره وسيطا بين المادة و الحياة التي تسري فيها ، فإن الخيال أيضا يستدعي الغائب و المجهول و المبهم ليأتلف مع الجاهز و الحاضر و المألوف ، مانحا للصور المكررة و للغة المباشرة الحياة ، من خلال فتحها على حركة التأويل و التفسير و ما يستدعيه ذلك من دهشة و انفعال ، فاللغة العادية و المباشرة هي في حكم الميتة ، لأن ماهيتها مكتملة في الوعي و الإدراك ، و بالتالي ثمة لا حركة تستوجبها منا ، أي لا انفعال أو دهشة أو تأمل ، حتى يحضر الخيال باعتباره وسيطا بين المعلوم و المجهول ، و بين الحسي و المجرد ، فيبعث اللغة من جديد بعدما يسقط ماهيتها في النقصان :
( الذاكرة مضيئة بنقصانها ) ص : 25
فالذاكرة باعتبارها نشاطا عقليا ، لا يبرز نشاطها ذاك ، و إضاءتها إلا في النقصان ، أي فيما يشكل بالنسبة لها موضوع غياب و بتر و نسيان و عتمة ، فتحاول استعادة هذا الموضوع بالاستناد على المعلوم و الحاضر و المعروف ، أي أن المبتور و الناقص يضيء غيابه الحاضر و المعلوم ، كما هو الحال مع الصور المتخيلة ، فهي مجهول أو إمكان بالقوة ، و لا تتخذ وضعية الوجود بالفعل إلا بتركيب مادتها و أجزائها من المعطيات الحاضرة أمامنا :
( اللغة فاتنة
تقودنا بحذر
نحو أقدارنا الأشد غموضا
من يرقة لم تولد بعد ) ص : 56
و هذه الإشارة نلمسها في شذرة أخرى :
( دودة الحبر
تناص كوني
مع دال تنسجه عين عمياء ) ص : 26
لنقف عند هذا التركيب ( دودة الحبر ) ، الذي يألف بين الدودة و الحبر ، بسبب اشتراكهما في نفس الفعل و التأثير ، الدودة التي تقضم المادة المتعينة و المكتملة ، لتنخر و تغيب جزءا من صورتها ، و تسم ماهيتها بالنقصان ، فهي تعمل عمل الحبر على الورق ، عندما يملأ الحبر بياض الورق بالثقوب بما يخطه عليه من حروف ، لكنها ثقوب ممتلئة بالدلالة و فائضة بالمعنى :
( الخطوة خيط
يحدث
في الروح
ثقوبا ممتلئة ) ص : 53
و لنلاحظ هذا الانسجام الصوتي بين ( الخطوة ) و ( الخيط ) ، بسبب تواتر حرفي الخاء و الطاء ، مما يستدعي معه دالا آخر يؤلفهما و يوحدهما و يتمثل في كلمة ( خط ) ، هذه الكلمة الأخيرة التي تنحدر من نفس الحقل الدلالي الذي ينتمي إليه الحبر و هو حقل الكتابة ، فالحبر يغيب و يفني الأجزاء المهترئة و المتحللة من الوجود بفعل اكتمال هذه الأجزاء و نضوجها و بالتالي سقوطها في دورة أخرى من التحلل و التكون ، إنه حبر الشعر الذي يخط دوالا ناقصة لأن أكثر مدلالوتها منخورة و مغيبة بالبياض و بالصمت ، مما يستدعي معه قوة التأويل لترميم المبتور و الغائب من الدلالة ، كما هو الحال مع التناص ، حيث النصوص الصامتة و المغيبة و المحولة لها مساحة من الحضور أكبر من النص المتعين و المكتمل بما أن تلك النصوص تمثل آليات تشكل ه و مواد نسجه الخفيتين ، أو ما سمته الشاعرة : ( تناص كوني ) ، مازجة في هذا التركيب بين الثقافة ( النص ) و الطبيعة ( الكون ) على اعتبار أن كليهما موضوع خلق ..
إن ( لبنى المانوزي ) قد أسست بهذا العمل الشعري للاختلاف ، و لم تحصر نفسها في تلك المنطقة الاعتيادية التي تأتينا منها أغلب نصوص الشاعرات المغربيات ، و المتمثلة في خطاب النسوية الضيق ، و الذي أصبح ينتصب أمامنا – من كثرة تكراره و شيوعه – مثل إيديولوجيا و مسلمة غير قابلة للتطوير و النقض ، مما جعلنا نضرب صفحا عن الكثير من تلك الأعمال ، و بالتالي فلبنى وضعت قدمها أو بالأحرى قلمها في منطقة لم يطلها الاكتمال ، منطقة يؤثثها الردم و الهدم ، أو ما عبر عنه الشاعر ( عنترة بن شداد ) في بيته الشعري الشهير بالمتردم ، ذلك البيت الذي صاغه على شاكلة استفهام استنكاري بعدما تلبسه قلق المتشابه و المكرر باحثا في ذلك البيت / السؤال عن أفق للاختلاف و التمايز ، و هو ما قدمته لنا الشاعرة ( لبنى المانوزي ) في هذا العمل و هي تؤسس لكتابة الاختلاف .
***
هامش :
لبنى المانوزي ( تحت مخدة الكون ) منشورات بيت الشعر في المغرب ، سلسلة عتبات . الطبعة الأولى 2009
صرخة الحرية- شكر و تقدير
-
عدد الرسائل : 26
تاريخ الميلاد : 17/08/1981
العمر : 43
الدولة : المغرب
المدينة : العيون
احترام قوانين المنتدى :
رد: تحت مخدة الكون لـ لبنى المانوزي
نبذه عن الشاعره
- شاعرة مغربية من مواليد مدينة فاس في 16 فبراير 1976
- شاركت الشاعرة فى عدة لقاءات ثقافية داخل المغرب وخارجه
- نشرت قصائدها بالعديد من الصحف الوطنية والعربية
- نالت جائزة الاستحقاق "ناجي النعمان" الأدبية عام 2005
- جائزة المسابقة الشعرية الجهوية ( الرتبة الثانية ) لمدينة فاس عام 2005
- الجائزة الأولى في "اليوم العالمي للشعر" بالدار البيضاء عام 2004
- الجائزة الثانية في الأسبوع الثقافي الكويتي بدار الثقافة بفاس عام 2001
- يصدر قريباً ديوانها "تفاصيل الضوء" عن دار مابعد الحداثة بدعم وزارة الثقافة
- عضوة مستشارة بنادي الكتاب بنسودة / فاس
- عضوة سابقة بالجمعية المغربية لحقوق الانسان وبجمعية الشعلة للتربية والثقافة
و هي عضوة بمنتديات ثانوية الورود بقلعة أمكونة
مشكوورة على الموضوع أختي صرخة الحرية
- شاعرة مغربية من مواليد مدينة فاس في 16 فبراير 1976
- شاركت الشاعرة فى عدة لقاءات ثقافية داخل المغرب وخارجه
- نشرت قصائدها بالعديد من الصحف الوطنية والعربية
- نالت جائزة الاستحقاق "ناجي النعمان" الأدبية عام 2005
- جائزة المسابقة الشعرية الجهوية ( الرتبة الثانية ) لمدينة فاس عام 2005
- الجائزة الأولى في "اليوم العالمي للشعر" بالدار البيضاء عام 2004
- الجائزة الثانية في الأسبوع الثقافي الكويتي بدار الثقافة بفاس عام 2001
- يصدر قريباً ديوانها "تفاصيل الضوء" عن دار مابعد الحداثة بدعم وزارة الثقافة
- عضوة مستشارة بنادي الكتاب بنسودة / فاس
- عضوة سابقة بالجمعية المغربية لحقوق الانسان وبجمعية الشعلة للتربية والثقافة
و هي عضوة بمنتديات ثانوية الورود بقلعة أمكونة
مشكوورة على الموضوع أختي صرخة الحرية
nbarc- محـمــد إدريـســـي
-
عدد الرسائل : 3407
تاريخ الميلاد : 18/02/1988
العمر : 36
الدولة : maroc
المهنة : مساعد صيدلي
المدينة : قلعة مكونة
الهاتف : 0651184573
0634670825
رقم عضويه : 1
الأوسمة :
احترام قوانين المنتدى :
رد: تحت مخدة الكون لـ لبنى المانوزي
تحية شكر للأخت صرخة الحرية، على الإدراج الرائع، الذي يخص الصديقة العزيزة، الشاعرة و الزجالة و الناقدة لبنى المانوزي، التي للمنتدى شرف انضمامها إليه، غير أن هذه الدراسة ربما يستحسن أن تكون بقسم الأشعار، على أن نضع رابط تحميل الديوان هنا بالمكتبة،
تحياتي الوافرة
تحياتي الوافرة
مصطفى جليل- عضو فعال
-
عدد الرسائل : 252
تاريخ الميلاد : 25/10/1986
العمر : 38
الدولة : المغرب
المهنة : infographiste
المدينة : لا مكان
الدولة :
احترام قوانين المنتدى :
رد: تحت مخدة الكون لـ لبنى المانوزي
الأخت صرخة الحرية
الف مرحبا بك ضمن إخوتك وأصدقائك بمنتدى قلعة مكونة
ونتمنى لك مقاما سعيدا مفيدا بيننا
شكرا أختي على هذا الإدراج الرائع الذي يخصّ الصديقة العزيزة لبنى المانوزي والتي أعتبرها من الشواعر المجددات على المستوى الجمالي والمضموني بالمغرب حتى انني ألقبها دائما بفروغ فروخزاد المغربية(فروغ فروخزاد شارعة إيرانية) وذلك للشبه الواضح بينهما على مستوى الكتابة والمبادئ والتكوين النفسي....
مودتي أختي صرخة الحرية
الف مرحبا بك ضمن إخوتك وأصدقائك بمنتدى قلعة مكونة
ونتمنى لك مقاما سعيدا مفيدا بيننا
شكرا أختي على هذا الإدراج الرائع الذي يخصّ الصديقة العزيزة لبنى المانوزي والتي أعتبرها من الشواعر المجددات على المستوى الجمالي والمضموني بالمغرب حتى انني ألقبها دائما بفروغ فروخزاد المغربية(فروغ فروخزاد شارعة إيرانية) وذلك للشبه الواضح بينهما على مستوى الكتابة والمبادئ والتكوين النفسي....
مودتي أختي صرخة الحرية
سامي دقاقي- الوسام البرونزي
-
عدد الرسائل : 361
تاريخ الميلاد : 01/01/1977
العمر : 47
الدولة : المغرب
المدينة : قلعة مكونة
احترام قوانين المنتدى :
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى